كوب من الكاكاو ، و بحر من الأحزان
أتيت إلى مجمع روبنسون robinson ؛ لإنني أحتاج أن أجلس قليلا في مكان مزدحم بالناس .
أريد أن أسمع ضجيجا أعلى من الضجيج الموجود في داخلي .
لا أعرف الكثير من الأماكن هنا ، لكن هذا المكان يبدو لي مناسبا ، فهو عائلي ، ومحترم إلى حد كبير ..
أود طبعا لو أجلس في مكان مفتوح ، في الطبيعة ، حيث الماء ، والشجر ، ولكن الطقس هنا لا يسمح بهذه الرفاهية ، على الأقل ليس في هذا الوقت من النهار ،حيث الشمس لازالت ساطعة ، ثم أن أقرب مكان أعرفه هو حديقة لمفيني ، وهو بعيد عني قليلا ، لذلك أخترت هذا المكان .
الطابق الرابع من المبنى ، حيث ركن الطعام food park
هو مساحة واسعة فيها العديد من الطاولات ، والكراسي ، ويقدم فيها أنواع مختلفة من الطعام الٱسيوي ، والمشروبات الباردة ، كما يوجد جانب مخصص للأطفال من مختلف الأعمار ، مجهز بألعاب جميلة ، ومختلفة ..
أحب أن أختار طاولة صغيرة بكرسي واحد ، أو كرسيين إذا كان زوجي معي ، حتى لا نحجز مكانا كبيرا لا نحتاجه ، كما لا أحب أن أجلس في المنتصف ، بل أفضل أن أجلس في الطرف ، أقرب ما يمكن من ركن الأطفال ، و أوجه الكرسي خاصتي باتجاههم ..
أجمل فئة عمرية بالنسبة لي في بلاد شرق ٱسيا هم الأطفال ..
يبدون لي أصغر حجما من الأطفال العرب ، وجوههم صغيرة جدا ، وتبدو عيونهم السوداء الجميلة مشعة بالأمل ، وبالسعادة ، وشعورهم الناعمة السوداء منسدلة على الجبين الصغير الأسمر ..
جمال ، وبراءة لا أستطيع وصفها ..
ذهبت وحدي ..
محتاجة لأقضي بعض الوقت مع نفسي من حين لآخر ، أرى ذلك صحيا ، على الأقل بالنسبة لي ..
اشتريت كوبا من الكاكاو المثلج ..
لا يوجد لديهم كاكاو ساخن و لا أي مشروب دافئ ..
احتاج كوبا من الكاكاو الساخن ، يذكرني بطقوس الشتاء التي أعشقها ، وافتقدها هنا ..
طلبت من الشاب المهذب الذي كان في خدمتي أن يخفف الثلج قليلا ، يكفيني الصقيع الذي بداخلي .
من حسن حظي أنه فهمني بسهولة بمجرد أن قلت little ice ، ثلج قليل ، ابتسم لي ففهمت أن طلبي وصل ..
غرقت في كوب الكاكاو مع أفكاري .
و رحت أتأمل من حولي .
أعلم أنه سلوك غير مناسب أن أنظر في وجوه الناس حولي ، خاصة و أن الناس هنا لا ينظرون لبعضهم البعض ، فالكل مشغول بنفسه ..
بإمكانك في تايلاند أن تفعل ما يحلولك من تصرفات دون أن ينظر إليك أحد كإنك مختلف ، إلتقط صورا ، تناول طعامك ، اقرأ كتابا ، أو حتى خذ قسطا من النوم مثلما فعل الرجل الجالس مجاورا لي ..
في بلدي الجميع يرمقك بنظراته ، لا تفهم سبب تلك النظرات ، ولكنه شئ نعرفه جميعا ، أنت دائما مراقب ، وتصرفاتك تحت الأنظار ، وحتى أن توقفت لربط حذائك ، أو تعديل ثيابك ، أو لأخذ صورة ، ستجد حتما من يشاهدك ، وربما يعلق عليك خفية مع من حوله ، ومع أنك تنظر إليه وهو يتحدث عنك ، قد يتجاهل ذلك ، أو يبتسم لك ..
لكنني أنظر لمن حولي لأسباب مختلفة ..
أنا لا أشاهد الأشخاص لأحكم على تصرفاتهم ، أو لأتطفل عليهم ، ونادرا ما أنظر لنفس الشخص أكثر من خمس ثوان ، ثم لا أعيد النظر مرة أخرى ..
أنا أشاهد الناس لأنني أقرأهم ، أقرأ حياتهم ، أحاول أن أفهم طبيعة المكان الذي أعيش فيه ، وكيف يتصرف أهله ..
حسنا .
رجل كبير في العمر ، أشيب الشعر يجلس في الطاولة المجاورة ، نائما بوضع الجلوس نوما متقطعا ، وفي يده قنينة ماء صغيرة ..
وهناك سيدة مسنة ، لا أرى وجهها ، تمارس طقوسا غريبة عني ، ولكنها تبدو منسجمة جدا ، في أذنيها سماعات موصلة بكتاب موسيقي ، فيه قرص ممغنط CD ، تجلس بهدوء ، تحرك كفيها بحركات خفيفة ، ومتناغمة .
وهناك أولاد بثياب المدرسة ، يبدو أنهم رجعوا للتو من الدوام الدراسي ، و قد جائوا للإستجمام واللعب هنا قليلا ، و تناول الطعام قبل العودة للمنزل ، اثنين منهم اشتروا مثلجات بالفانيليا ، و واحد يتناول طعام الغذاء بشهية طيبة ..
ترى لو أنني تزوجت باكرا ، هل كان سيكون عندي أبناء في عمرهم ؟
لماذا بحر أحزاني متلاطم اليوم ؟
ولماذا تأتيني مثل هذه الأفكار ؟
مجموعة من البنات كذلك بثياب المدرسة ، يتناولن الطعام ، وبعضهن تكتفي بشراب بارد ..
هناك فتاة بشعر قصير في يدها أوراق كثيرة ، وهي منهمكة فيها ..
رجل مسلم ، و زوجته ذات الحجاب الجميل يتناولان الطعام ، ألقيت عليهما السلام ، فردوا عليَّ و الإبتسامة تملأ وجهيهما ، شعرت ببعض الدفئ في داخلي ، وبالرغم أنني كنت أرغب بالحديث معهما ، لكنني لم أنظر ناحيتهما مجددا ، حتى لا أضايقهما .
قطع حبل أفكاري شاب يبدو لي في مثل عمري ، يطلب أن يأخذ الكرسي المقابل لي إن لم أكن أحتاجه ، هكذا فهمت من لغة جسده ، لإنني لم أفهم حرفا واحدا من كلامه ، فأشرت له بنعم ..
أخذ الكرسي ، و أضافه للطاوله القريبة مني لحين حضور زوجته التي كانت تطلب وجبة الغذاء ، وجلسا بكل حب يتقاسمان الطعام ..
لم أنظر ماذا في صحنيهما ، و لا أتذكر ماذا كانا يأكلان ، ولكنها كانا يشتركان الطعام بعفوية ، ومحبة .
انتهى المشهد الجميل بالنسبة لي هنا ..
رجل متوسط العمر ، أشيب الشعر جلس على طاولة موازية لي ، لم أنظر نحوه مباشرة ، لكن طاولته كانت في مرمى بصري ، طلب حساءً ، و أرزا مع البيض ، وصلت رائحة طعامه لأنفي ، لكنني لم أشتهيه ..
المكان كله يفوح برائحة الطبخ الٱسيوي ، لكنني لا أشتهي إلا طبخ أمي ..
أشتهي صحنا من الكسكس الليبي ، عليه بصل ، حمص ، بطاطس ، و قرع أحمر ، و قرع أخضر ، و لحم مستوي جدا ، وكثير من الحب الذي تمزجه أمي في كل وجبة تطبخها ..
حتى البيض المقلي من يد أمي شهي ، و طيب ..
أشتاق لطبخ أمي ، و حضن أمي ، و رائحة أمي ..
هنا خانتني دموعي وسط ألف إنسان ..
لم أستطع أن أوقفها ، و لا أن أقطع حبل أفكاري ، وتوقفت عن رؤية كل شئ ، دموعي حجبت عني النظر ، و لم أعد أرى إلا وجه أمي ، تلك العيون الجميلة ، وذلك الوجه اللطيف .
نزلت دموعي تباعا ، خفت أن ينتبه الناس من حولي ، رغم أنني أعلم أن أحدا لن يهتم لي ، ولن يسألني أحد ما بك ؟
قمت من مقعدي ..
غيرت الطاولة ، جلست حيث كان الرجل الشاب ، وزوجته يتقاسمان طعامهما ، لقد غادرا ، والطاولة تم تنظيفها ..
يبدو لي المكان مناسبا ، محجوز بين جدارين ..هذه المرة لا أحد بجواري مطلقا ، وجهي مقابل تماما للأطفال ، وأستطيع أن أطلق العنان لدموعي كما أشاء ..
بكيت قليلا ، ثم أحسست بالتحسن .
و توقفت دموعي قليلا ..
أطفال كثيرون في مختلف الأعمار يلعبون ألعابا كل حسب عمره ، وميوله ..
تمنيت لو أن الأطفال في بلادي يتوفر لهم نفس القدر من الأمان ، والسعادة ، ربما وقتها سيقل العنف ، والغضب ، و يتوقف نزيف الدماء ..
طفلة صغيرة جدا ربما بعمر الأشهر تحملها أمها بكل رفق وحنان ، و الطفلة الثانية أكبر عمرا ، تبدو لي ربما في الرابعة ، أو الخامسة ، لا أستطيع أن أحدد لإن حجمها لطيف ، وصغير ، ولكنها تبدو لي عاقلة ، ومنضبطة ..
كانت سعيدة جدا ، سعيدة بالمكان ، وسعيدة بأختها على ما يبدو لي ..
كانت تتنقل بين الألعاب ، و تجرب بعضها ، بينما كانت أمها تهدهد الطفلة الصغيرة ، وتضعها بحنان فوق الحصان الصغير المتحرك ..
تذكرت أمي مرة أخرى ، هي بالتأكيد كانت تفعل معي الشئ نفسه عندما كنت صغيرة ، و أنا سأفعله مع طفلتي بإذن الله ..
الطفلة النشيطة تنظر نحوي وتبتسم ، تلعب ، وتنظر نحوي ، وتبتسم من جديد ..
ابتسمت لها ، وشعرت بالدفئ ثانية .
يا الله هل سأصبح أما في يوم من الأيام قريبا ؟
ترى لو كنت حاملا ؟
في أي شهر سأكون الآن ؟
السابع ؟ ربما .
يعني أن طفلي ، أو طفلتي ستصل قريبا ، لتملأ حياتي ، و تؤنس وحدتي ، وتملأ قلبي بالدفئ ، والسعادة ..
يا الله هل سأحب أمي أكثر عندما أصبح أما ؟
هل سأشتاق لها أكثر ؟
وهل يمكن أن أحبها ، أو أشتاق لها أكثر مما أنا الآن ؟
يا الله أنت لا تكلف نفسها إلا وسعها ، ولا تحمل إنسانا فوق طاقته ..
أعطي يا رب لأمي طول العمر ، والصحة ، والسعادة حتى نلتقي من جديد ، لا يزال لدي الكثير لأخبرها به ..
أريد أن أقبل يديها ، و رأسها ، وقدميها ، أريد منها أن تسامحني ..
أريد أن أصلي معها ، و أن أذهب معها إلى الحج .
أريد أن أطبخ معها ، ونغني معا كما كنا نفعل دائما ..
أريدها أن تحمل أطفالي ، و أن تعلمني كيف أكون أما فاضلة كما كانت ، ومازلت فاضلة ، و محبة ، و مضحية ، و متفانية ..
يا الله لا تتركني في بحر الأحزان وحدي ، ففي قلبي مكان لا يسده إلا أمي ، وعائلتي ..
تدور في عقلي كلمات أغنية حمزة نمرة داري يا قلبي ..
و أغنية ناقصنا شوية حبايب ..
أغاني حمزة نمرة هي رفيقتي المخلصة هذه الفترة ، ومنذ أن عرفت إحساس الغربة ، فهي تلخص مشاعري ، و تقول كل ما عجزت عن قوله ببساطة ، وسلاسة .
أخرجت دفتري ، وقلمي ، وكتبت مشاعري المبعثرة على الصفحات ، أنهيت كوب الكاكاو ، و جلست على شاطئ الأحزان ، أتأمل كيف كان بحري ثائرا ، و كيف سكن قليلا ..
نظرت للساعة ، يجب أن أعود الآن ، مسحت وجهي ، عدلت خماري ، و وقفت ، أرجعت الكرسي لمكانه ، وعندما هممت بالمغادرة ، ودعني الرجل الذي كان يتناول الحساء ، بابتسامة معبرة ، فيها الكثير من الاحترام ، بادلته التحية ، و تابعت المسير ، و أنا أشعر بأن قلبي أخف ثقلا ، نزلت للطابق السفلي ، اشتريت بعض الأغراض التي أحتاجها ، و رجعت لمسكني ..
شعرت لسبب ما أن مسافة العودة كانت أقصر ، و أن ضجيج أفكاري قد سكت ، و أن إتزاني قد عاد لي
والحمد لله رب العالمين .
posted from Bloggeroid
حسناء
لؤلؤة
غير معرف
غير معرف